المخرج الإيطالي فديريكو فلليني المولود عام 1920 مخرج الأفلام الأكثر تميزاً في السينما الأوروبية الحديثة: «المقابلة»، «ثمانية ونصف»، «جوليتينا والأرواح»، «كازنوفا فلليني»، «لا سترادا»، «المأساة الساخرة»، «المدللون»، و«الحياة الحلوة» (السعفة الذهبية في كان 1993) والعديد من الأفلام التي أثارت المتذوقين الحقيقيين للفن السابع لسنوات طويلة بسبب أن سينماه لها منحى مختلف عما تنتجه هوليود وعما تنتجه السينما في أي مكان من العالم. دون شك أن فلليني مخرج متميز جدا، ورغم غيابه الذي بلغ العشر سنوات الا أنه لا زال حاضرا بتميزه وفرادته، ذلك التميز الذي لا يسهل عملية الفرجة على أفلامه، ولا على تفهم اهتماماته واسلوبه الفني بقدر ما يصعبها ويعقدها، فهو مخرج لا يخضع للقياس الفني التقليدي للسينما، وأفلامه عدا المبكر منها صنعت وفق شكل فني بالغ الذاتية، وغالباً ما تكون تعبيراً مباشراً سريعاً، لدرجة عدم الإمساك بها، فهو يراوح بين هواجسه واختلاجاته النفسية والفكرية فيها.. يشغّل الكاميرا بعفوية بالغة ويسخر طاقمه السينمائي ( ممثلين،فنيين،عاملين..الخ) بحيث يستثمر ويكتشف طاقاتهم الإبداعية لا التنفيذية، فيأتي الفيلم في سردية حلزونية مربكة، ويتركها بلا تعديل أو تدخل فني يذكر، أو دون محاولة لصبها في قالب درامي تقليدي أو حداثي أيا كان، هكذا تبدو آلية العمل /اللعب عند فلليني الأمر الذي يدهش مغريه وينفّر ناقديه.
يصنع بسهولة
فلليني يصنع أفلامه بسهولة شديدة وبلا مجهود عملي تقريباً، في ذات الوقت الذي تأرقه الأفكار والهواجس والقراءات قبل مرحلة التصوير، وهنا تكمن إثارة أعماله، فهو لا يعاني أبدا من مخاض الخلق، إذ على العكس تماما، إنه يتلذذ بلعبة الخلق. تتوالى عليه الخواطر والمواقف والشخصيات كما تلمع في عقله الباطن، فيرصها حول شخصيته المحورية كما هي، بل ربما لا يهتم كثيرا بالترتيب للمشاهد أو أن يبذل جهدا لمراعاة أية أصول أو قواعد أو أن يفكر حتى في الإنفعالات والانطباعات التي ستتركها تلك الشخصيات والمشاهد على المتفرج. انه لا ينشغل بالتحكم في هذه العناصر أو توجيهها أو دراسة تسلسلها لأنه يؤمن بحراكها الذاتي، ثم يستمتع بتفاعلها ونتائجها التي تصورها من قبل.
إنه يشبه الى حد بعيد الكيميائي الذي يجهز العناصر الأولية ويهئ الظروف الفيزيائية للتفاعل ثم يراقب عملية التفاعل ويدهش للنتائج التي تحقق توقعاته أو التي تخالفها. إنه لاعب كبير ومتسلّ عظيم.
التيمة الفللينية الفريدة هي كالآتي: بطل فرد في رحلة هذيان ملحمية في كل من الزمان والمكان والشعور، يمر خلال الرحلة بعشرات الأماكن والشخصيات الغريبة الأطوار ومن ثم بعشرات المواقف ذات الحبكات الفرعية المنفصلة تماما عن بعضها البعض. وغالباً ما تكون الرحلة شبيهة بالحلم أو الكابوس، مما يجعل المتفرج يعتقد بأنه يشاهد (سينما سريالية) ان صح المصطلح، وكما أعتقد الكاتب البرتو مورافيا عندما قال: إنه يصور أحلامنا. إن رحلات فلليني هي دائما في العقل الباطن وفي أعماق النفس، وعلى المتفرج أن يخرج منها بما يشاء هو ولا أحد غيره.
التوجيهات والشواغل
ولكن ما هي أهم توجهات وشواغل فلليني.؟ هذا السؤال هو المتكرر دوما عند تحليل فن فلليني. ويمكن الذهاب الى أن أغلبها يدور حول الصراع ما بين الأخلاق والغريزة، وأن براعته الحقيقية هي تجسيد كلا القطبين كما يدوران في باطن عقله/عقولنا الإجتماعية دون أن يهتم كثيرا بالانحياز لأحدهما ضد الآخر، فهو بالتأكيد ليس فاجراً جدا أو ملتزماً جدا أو معتدلا جدا، ولهذ يسهل رفض أفلامه من جانب المتحررين والملتزمين على حد سواء. صراع الغريزة مع الأخلاق داخل النفس البشرية ؟ هذا هو السؤال.
يمكن كذلك إضفاء بعد وجودي على أفلامه، بحكم اهتمامها بالمشاعر الفردية الذاتية وابرازها بمعزل عن خلفياتها وعدم تواصلها مع الآخرين. وفي كل الأحوال لن تخلو أفلامه من قيمة نفسية أو رمزية أو فكرية أو واقعية رغم كل غرابتها.
ثرثرة وهلوسة
الكثيرون لا يرتاحون لأعمال فلليني ويعتبرونها نوعا من الثرثرة أو الهلوسة المجانية التي تفضي الى لا شيء. وهذا قول فيه الكثير من التجني على منهج وفن الرجل.
بينما نجد الكثيرين، أيضاً، يصفونها بلفظة لا تقبل اللبس وهي (العبقرية) ويفيضون في شرح تفسيراتها وغزواتها لتلك الأجزاء الغامضة في انسانيتنا. غير ان الإبداع التلقائي المستند على حائط هائل من المعرفة قادراً على الصمود مع الزمن، فلا بد من وجود أهمية ما لهذا الإبداع. كيف يمكن أن تنقل ثرثرة التمرد من أريكة الطبيب النفسي الى شاشة السينما بمثل هذه البساطة والتلقائية ؟، مع وجود تلك البهرجة والحركة التي يمتلئ بها الكادر، وتجعل المشاهدة أمرا غاية في التسلية والمتعة والمرح.
وبعد، فأفلام هذا المتفرد لا تروى هكذا، ولا يمكن ولن أحاول ترجمتها الى القارئ في كلمات وصفية فقط، لكن أشير فقط بhقتضاب الى الملامح الخارجية التي تمثل الشكل العام لبعض أفلامه:
«الحياة لذيذة»: رحلة صحفي داخل شخصيات ومجتمعات روما المعاصرة تشمل الزوجة وعلاقة مع ممثلة أمريكية وعلاقات عاطفية وغير عاطفية.
«ثمانية ونصف»: رحلة مخرج يحاول صنع فيلم جديد وسط شخصيات سينمائية متفاوتة. وهناك إجماع من النقاد على أن هذا هو أفضل فيلم ذاتي صنعته السينما. حيث بدأ معه مرحلة جديدة من رؤيته السينمائية والإبداعية، وفيه استطاع فيلليني ان يعبر بعمق عن مشكلة الإبداع وعن شخصية الفنان المبدع وحالته الروحية فبطله المخرج السينمائي يعيش أزمة روحية صعبة ويعاني من التشتت والارتباك اثناء بحثه عن موضعه الخاص.«جوليتيان والأرواح»: رحلة زوجة يخونها زوجها داخل ماضيها وتربيتها وأسرتها والشخصيات التي قابلتها منذ الطفولة. وفيه محاولة للغوص في عالم المرأة الداخلي، عبر رؤية فلسفية ونفسية وتحليلية عميقة تقترب من تحليلات عالم النفس «يونج» حول اكتشاف التصورات اللاشعورية الجماعية.
«ساتيريكون فلليني»: رحلة شابين داخل روما القديمة وشخصياتها المنحلة خلاقيا.
«كازانوفا فلليني»: رحلة ذلك الماجن كازانوفا الإيطالي الشهير في القرن الثاني عشر حيث يقدمه فلليني في صورته الأكثر فجورا.
«المقابلة»: رحلة صحفي شاب صغير وسط عالم (الشينشيتا) مدينة السينما الإيطالية الشهيرة في عامها الخمسين، من خلال شخصياتها وأجوائها الغريبة الأطوار والطباع. (ساتيركون): يكشف المتفرج عليه امام نفسه انه يحرره من القناع الذي يضعه على وجهه يجرده من الملابس التي تلفه، انه عملية تشريح للنفس البشرية في ابشع حالاتها وفي انطلاقها مع غرائزها.
khalidrabeei@hotmail.com
يصنع بسهولة
فلليني يصنع أفلامه بسهولة شديدة وبلا مجهود عملي تقريباً، في ذات الوقت الذي تأرقه الأفكار والهواجس والقراءات قبل مرحلة التصوير، وهنا تكمن إثارة أعماله، فهو لا يعاني أبدا من مخاض الخلق، إذ على العكس تماما، إنه يتلذذ بلعبة الخلق. تتوالى عليه الخواطر والمواقف والشخصيات كما تلمع في عقله الباطن، فيرصها حول شخصيته المحورية كما هي، بل ربما لا يهتم كثيرا بالترتيب للمشاهد أو أن يبذل جهدا لمراعاة أية أصول أو قواعد أو أن يفكر حتى في الإنفعالات والانطباعات التي ستتركها تلك الشخصيات والمشاهد على المتفرج. انه لا ينشغل بالتحكم في هذه العناصر أو توجيهها أو دراسة تسلسلها لأنه يؤمن بحراكها الذاتي، ثم يستمتع بتفاعلها ونتائجها التي تصورها من قبل.
إنه يشبه الى حد بعيد الكيميائي الذي يجهز العناصر الأولية ويهئ الظروف الفيزيائية للتفاعل ثم يراقب عملية التفاعل ويدهش للنتائج التي تحقق توقعاته أو التي تخالفها. إنه لاعب كبير ومتسلّ عظيم.
التيمة الفللينية الفريدة هي كالآتي: بطل فرد في رحلة هذيان ملحمية في كل من الزمان والمكان والشعور، يمر خلال الرحلة بعشرات الأماكن والشخصيات الغريبة الأطوار ومن ثم بعشرات المواقف ذات الحبكات الفرعية المنفصلة تماما عن بعضها البعض. وغالباً ما تكون الرحلة شبيهة بالحلم أو الكابوس، مما يجعل المتفرج يعتقد بأنه يشاهد (سينما سريالية) ان صح المصطلح، وكما أعتقد الكاتب البرتو مورافيا عندما قال: إنه يصور أحلامنا. إن رحلات فلليني هي دائما في العقل الباطن وفي أعماق النفس، وعلى المتفرج أن يخرج منها بما يشاء هو ولا أحد غيره.
التوجيهات والشواغل
ولكن ما هي أهم توجهات وشواغل فلليني.؟ هذا السؤال هو المتكرر دوما عند تحليل فن فلليني. ويمكن الذهاب الى أن أغلبها يدور حول الصراع ما بين الأخلاق والغريزة، وأن براعته الحقيقية هي تجسيد كلا القطبين كما يدوران في باطن عقله/عقولنا الإجتماعية دون أن يهتم كثيرا بالانحياز لأحدهما ضد الآخر، فهو بالتأكيد ليس فاجراً جدا أو ملتزماً جدا أو معتدلا جدا، ولهذ يسهل رفض أفلامه من جانب المتحررين والملتزمين على حد سواء. صراع الغريزة مع الأخلاق داخل النفس البشرية ؟ هذا هو السؤال.
يمكن كذلك إضفاء بعد وجودي على أفلامه، بحكم اهتمامها بالمشاعر الفردية الذاتية وابرازها بمعزل عن خلفياتها وعدم تواصلها مع الآخرين. وفي كل الأحوال لن تخلو أفلامه من قيمة نفسية أو رمزية أو فكرية أو واقعية رغم كل غرابتها.
ثرثرة وهلوسة
الكثيرون لا يرتاحون لأعمال فلليني ويعتبرونها نوعا من الثرثرة أو الهلوسة المجانية التي تفضي الى لا شيء. وهذا قول فيه الكثير من التجني على منهج وفن الرجل.
بينما نجد الكثيرين، أيضاً، يصفونها بلفظة لا تقبل اللبس وهي (العبقرية) ويفيضون في شرح تفسيراتها وغزواتها لتلك الأجزاء الغامضة في انسانيتنا. غير ان الإبداع التلقائي المستند على حائط هائل من المعرفة قادراً على الصمود مع الزمن، فلا بد من وجود أهمية ما لهذا الإبداع. كيف يمكن أن تنقل ثرثرة التمرد من أريكة الطبيب النفسي الى شاشة السينما بمثل هذه البساطة والتلقائية ؟، مع وجود تلك البهرجة والحركة التي يمتلئ بها الكادر، وتجعل المشاهدة أمرا غاية في التسلية والمتعة والمرح.
وبعد، فأفلام هذا المتفرد لا تروى هكذا، ولا يمكن ولن أحاول ترجمتها الى القارئ في كلمات وصفية فقط، لكن أشير فقط بhقتضاب الى الملامح الخارجية التي تمثل الشكل العام لبعض أفلامه:
«الحياة لذيذة»: رحلة صحفي داخل شخصيات ومجتمعات روما المعاصرة تشمل الزوجة وعلاقة مع ممثلة أمريكية وعلاقات عاطفية وغير عاطفية.
«ثمانية ونصف»: رحلة مخرج يحاول صنع فيلم جديد وسط شخصيات سينمائية متفاوتة. وهناك إجماع من النقاد على أن هذا هو أفضل فيلم ذاتي صنعته السينما. حيث بدأ معه مرحلة جديدة من رؤيته السينمائية والإبداعية، وفيه استطاع فيلليني ان يعبر بعمق عن مشكلة الإبداع وعن شخصية الفنان المبدع وحالته الروحية فبطله المخرج السينمائي يعيش أزمة روحية صعبة ويعاني من التشتت والارتباك اثناء بحثه عن موضعه الخاص.«جوليتيان والأرواح»: رحلة زوجة يخونها زوجها داخل ماضيها وتربيتها وأسرتها والشخصيات التي قابلتها منذ الطفولة. وفيه محاولة للغوص في عالم المرأة الداخلي، عبر رؤية فلسفية ونفسية وتحليلية عميقة تقترب من تحليلات عالم النفس «يونج» حول اكتشاف التصورات اللاشعورية الجماعية.
«ساتيريكون فلليني»: رحلة شابين داخل روما القديمة وشخصياتها المنحلة خلاقيا.
«كازانوفا فلليني»: رحلة ذلك الماجن كازانوفا الإيطالي الشهير في القرن الثاني عشر حيث يقدمه فلليني في صورته الأكثر فجورا.
«المقابلة»: رحلة صحفي شاب صغير وسط عالم (الشينشيتا) مدينة السينما الإيطالية الشهيرة في عامها الخمسين، من خلال شخصياتها وأجوائها الغريبة الأطوار والطباع. (ساتيركون): يكشف المتفرج عليه امام نفسه انه يحرره من القناع الذي يضعه على وجهه يجرده من الملابس التي تلفه، انه عملية تشريح للنفس البشرية في ابشع حالاتها وفي انطلاقها مع غرائزها.
khalidrabeei@hotmail.com